

Patrimoine et Documentation Culturelle
Dr. Khadhraoui Mohamed Habib
Maitre Assistant en Sciences culturelles, Université de Tunis
Page facebook de l'ISAJC
التراث و التوثيق الثقافي
الدكتور محمد الحبيب الخضراوي
مديرالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي
جامعة تونس
Khadhraoui Mohamed Habib Directeur de L'institut Supérieur de l'Animation pour la Jeunesse et la Culture ISAJC, Université de Tunis
موقع التواصل مع الدكتورمحمد الحبيب الخضراوي
أستاذ العلوم الثقافية بجامعة تونس
Visitez le Blog perso du prof
"الثقافة الشعبية: ثقافة فرعية أم ثقافة أصلية"
الثقافة الشعبية
ثقافة فرعية أم ثقافة مرجعية؟
إعداد: محمد الحبيب الخضراوي
مساعد تعليم عالي في العلوم الثقافية
المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي
اتجهت مقاربات عدة إلى اعتبار أن الثقافة الشعبية هي ثقافة فرعية وتعبر بالتالي عن التجربة الخصوصية ونذكر هنا على سبيل المثال قراءة الأستاذ عبد الحميد لرقش في إطار تحليله لوضعية الفقراء والمهمشين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما أن مواقف محمد الهادي الشريف مثلها مثل تحليلات " قرامشي" تحيل المنتوج الشعبي إلى الأبنية الفوقية واعتبارها منتوج الثقافة المهيمنة التي يوظفها الأسياد ووجهاء القوم ونبلائهم لفائدة المحافظة على النظام الاجتماعي وعلى السلم الاجتماعية والتي يستفيد منها هؤلاء على حساب بقية الفئات الاجتماعية. أما قراءة الأستاذ عبد الحميد هنية فهو يتحفظ على استعمال مفهوم الثقافة الشعبية في الفترة التاريخية المذكورة ويقول بأنه لا يجوز استعمال هذا المصطلح لكل زمان لأن الصفة " الشعبية" هي مشتقة من "شعب"، وهي عبارة جديدة تفترض واقعا اجتماعيا يكون فيه الأفراد ينظر إليهم على أنهم متساوون ومتشابهون ولا يتحدون إلا بذواتهم وليس بقبيلة أو بمدينة. ويضيف قائلا أن مصطلح " الشعب " لم يبرز في القاموس السياسي في البلاد التونسية قبل السنوات 1920، وذلك بعد امتزاج أفراد المجتمع فيما بينهم وتجاوزوا بذلك الأطر السابقة : المدينة والقبيلة إلخ...
وعليه ينتهي الأستاذ عبد الحميد هنية بالتأكيد على أنه نتيجة لذلك لا يمكن الحديث عن نظرة إلى الكون شاملة وعامة لدى الأفراد فهي تتغير حسب الإطار الذي ينشأ فيه الفرد وينمي فيه فكره وماله ومن هنا كانت ضرورة تفادي استعمال مصطلحا يمكن أن يكون مسقطا على واقع القرن التاسع عشر.
إننا نقدر أن ضعف اعتماد الثقافة الشعبية في الدراسات العلمية يعود أساسا إلى عدم وضوح في الحقل الابستيمولوجي الذي يتأسس عليه هذا المنتوج والى ضعف العلاقة مع الروافد المعرفية التي تغذي هذا الحقل وتدعمه، وعلى هذا الأساس فإننا نشير أولا إلى أن المعالم الدلالية التي تناولت موضوع " الثقافة الشعبية " تختلف بحسب تعدد المنظومة المرجعية الضابطة لمحتويات ومنهج المادة المقدمة ، وقد تأثرت هذه المرجعيات بالتخصصات المعرفية الباعثة على تطويع المنهج والتوجه به وفق أرضية تتسم بهيكلية مبنية على أسس ابستيمولوجية مشتركة .
ويعتبر إضافة إلى ذلك أن إهمال ذكر المرجعية في تناول ظاهرة " الثقافة الشعبية " سواء عن وعي أو عن غير وعي مؤشرا إضافيا على تشتت و "فوضى" الدلالات المحيطة بهذا الموضوع وانفلات من الدقة العلمية التي صاحبت طويلا تناول هذا الموضوع ، لذلك اختلفت الرؤى وتباينت حوله.
سنعمل خلال هذا المقال على مناقشة هذه الإتجاهات الفكرية للثقافة الشعبية سواء منها المحلية أو الأجنبية [1]وتعميقها من خلال التعرض إلى مفهوم الثقافة الشعبية من وجهة نظرنا التي نعرضها ضمن التصنيفات المعرفية وليست الجماعوية، ومن خلال الإجابة عن التساؤل هل أن الثقافة الشعبية هي ثقافة فرعية وبالتالي تتعارض أو تتناقض مع ثقافة النخبة أو الثقافات الفرعية الأخرى؟ وهل هي ثقافة الفقراء من الشعب؟ أم هي ثقافة مرجعية قادرة على اختراق الجماعات وتختزل استراتيجياتها في التعبير عن واقعها.
-
في التعاطي الكلي مع الثقافة الشعبية( مقابل التعاطي التجزيئي)
تعارف المشتغلون في حقل التراث على أن الأدبيات التي تعكس خاصيات الثقافة الشعبية المحلية تتوزع أساسا على الشعر الشعبي والحكايات الخرافية والأمثال والحكم و الدعاء والأقوال المأثورة إضافة إلى المعارف المشتركة والرموز المتبادلة وأشكال التعبير الجسمي والحركي وعناصر المخيال الجماعي في تشكلاته المختلفة. فما الذي يجعل من هذه النصوص إذن نصوصا تعكس الثقافة الشعبية؟
لقد اعتبرنا في موقع سابق بأن الإطار الثقافي العام يحتضن التمثلات الأساسية التي يتحرك فيها ومن خلالها الأفراد في ممارساتهم المختلفة كما اعتبرنا أن هذه التمثلات تترابط فيما بينها بشكل من الأشكال وأن هذا الترابط يؤدي إلى شبكة مكثفة الروابط تتوفر على مناطق قوة أي ذات كثافة ترابطية وأخرى ذات مناطق ضعيفة. بمعنى أنه توجد فيما بينها ترابطا وتراتبا أفقيا وعموديا.
ومن ناحية أخرى فقد اعتبرنا أيضا أن الإنتاج الثقافي الشعبي يعبر بشكل ما عن هذه التمثلات ويكشف عنها. ولما كانت الأشكال التعبيرية للمنتوج الشعبي عديدة في إطار النشاط الاجتماعي فإنه من المنطقي أن تتضافر هذه المداخل المتعددة وتتعاضد بشكل إرادي ولا إرادي للتعبير عن الواقع الاجتماعي والتاريخي ومشاغل الحياة اليومية التي ارتقت إلى أن تكون مادة للتمثلات الجماعية والذاكرة المحلية. وعلى هذا الأساس فإن أشكال الممارسات الثقافية من هذا النوع من الممارسات الثقافية اليومية المكثفة تصنف في أغلب الأدبيات في بعديها المادي واللامادي نذكر من بينها التعابير التالية:
-
ثقافة شعبية غير مادية مثل الحكايات والأساطير والملاحم والشعر الشعبي والحكم والأمثال الشعبية.أي المنتوج الشفوي الشعبي.وليس خفيا في هذا المجال أن القصص الشعبي وعمليات القص مثلا اتخذت أشكالا عدة[2] لاسيما في المجتمعات العربية والإسلامية وأدرج البعض منها ضمن التراث الإنساني العالمي مثل ألف ليلة وليلة، وقد اعتبر هذا النشاط محوريا [3]واتصل في مناسبات معينة بالقضايا الأساسية للمجتمع. كما اعتبر الراوي منشطا بامتياز للذاكرة الجماعية في مجالات البطولة والملحمة والأعمال الجهادية والقيم المشتركة.كما اتخذ منزلة خاصة في المجتمع بلغت حدا خطيرا في بعض الفترات التاريخية.[4]
-
الثقافة الشعبية في إطار تمثلات الحياة اليومية وتمارس من خلال ما يعرف بدورتي السنة والحياة . وتتعدد أشكال الممارسات في هذا الإطار ونذكر منها الممارسات الدينية والطقوسية وزيارة الأولياء وممارسات الميلاد والختان والزواج والموت، وما يقع في بعض المواسم الفلاحية وإعداد "العولة" والأكلات الشعبية الى غير ذلك من الممارسات.[5]
وتتوزع الرموز التي تنقلها مختلف هذه الأشكال التعبيرية على محامل تواصلية عديدة بحسب النشاط الاجتماعي تتكامل فيما بينها رمزيا ودلاليا ومنها مثلا تأويل الأحلام. وتتعدد استعمالات الحلم في الحكاية الشعبية لتنتهي إلى توافق رمزي بين نتائجها وضعياتها الختامية وبين تأويل الأحلام مثلما نجه في الكتب التي تنسب إلى " ابن سيرين" . فالواقع الاجتماعي حينما يتحول أو يتمظهر عبر الحلم فإن ذلك يعني القدرة المميزة لذلك الواقع على التأثير في حالة الإدراك( شعوريا و/أو لا شعوريا) ونفاذه بشكل ما إلى الذاكرة ليتخذ له موقع ضمن شبكة انتقال المعلومات وتبادلها. ويمثل هذا الحضور الجديد ضغطا إضافيا ضمن شبكة تراسل المعطيات والمعلومات بالدماغ سيعمل على إحداث تبادلات جديدة أو تعزيز تبادلات قائمة أو إظهار عناصر أخرى ضمن شبكة التبادل أو إضعاف الروابط مع عناصر فاترة أو التي تبدو كذلك.
ومثلما أن الفرد يحلم فإن للمجموعة أيضا حلما ويعتبر الحلم بالنسبة إلى الجماعة وعاء للصور والتمثلات الجماعية التي تعبر عن وضعية معينة ضمن المسار التاريخي للجماعة. لذلك فإن الأحلام الصادرة عن الأفراد المختلفين في الجماعة الواحدة تتكامل لتقدم تمثلات لوضعية واحدة تعيشها الجماعة من منطلق زوايا متفرقة حسب الواقع الذاتي لكل فرد. وتشكل مع بعضها مقاطع متعددة لحلم واحد Des fragments d’un même rêve . وبهذا المعنى فإننا نتجاوز الحلم الشكل La forme ليتدخل في المضمون ويؤثر فيه ويمتد التحليل حينذاك إلى التأويل للحلم الذي لن يكون له معنى إلا في ظل الدلالات والرموز المتبادلة في الإطار الاجتماعي والثقافي.
والثقافة الشعبية تجد من خلال هذه الأوعية مجالات لتمرير خطابها ورموزها مثلما أن الفاعلين يوظفون هذه الأوعية لإقحام رهاناتهم والعمل على تشكيلها وصياغتها وفق تلك الرهانات حيث يمتزج الخطاب والموقف والسلوك بالرهان ذهابا وإيابا.
وأمام هذا التنوع في الأشكال التعبيرية والتواصلية للثقافة الشعبية وما يقابلها من تنوع في التجربة الاجتماعية ووضعياتها المتعددة التي تحيل في كل مرة إلى سياق مميز ودلالة خاصة، يتأكد بشكل قاطع التكامل بين هذه الأشكال التعبيرية ، وإنه من غير المنطقي أن يتفرد الباحثون بجزء من هذا المنتوج أو بشكل فني وحيد للحكم له أو عليه في التعاطي مع الواقع الاجتماعي والتاريخي[6]. ويتخذون من ثمة مبررا لإحالته إلى الفوضى أو البساطة أو التناقض أو إلى العفوية أو إلى الهامشية أو الفئوية الضيقة أو غيرها من الإحالات. وهنا أشير إلى ما عبر عنه أحدهم في الاستعمال الموجه للثقافة الشعبية بقوله : "
« Les cultures populaires ne sont pas étudiées, elles sont prises dans un discours de déploration. Car la sociologie bourdieusienne se propose d'analyser les cultures populaires à partir d'outils forgés pour étudier les cultures dominantes. »[7]
-
المرجع الجمعي في الخطاب الشفوي
إن الخطاب الشفوي الشعبي في أشكاله الفنية المتنوعة هو نتاج جمعي يعود أساسا إلى المجموعة الحاملة والناقلة له ومن الممكن أن تهيأ آليتي التواتر والتكرار أرضية خصبة لإنتاج نصوص أخرى نعتبرها روايات متعددة لهيكل دلالي مترابط variantes لذلك فنحن لا نتعامل مع نص واحد للخطاب الشعبي في إطار الشكل الفني سواء كانت خرافات أو أمثالا أو أشعارا أو غير ذلك. بل تعترضنا روايات مختلفة تلتقي في عناصر ثقافية وتتوافق ولكنها أيضا تختلف في عناصر ثقافية أخرى. وتحمل هذه الروايات متغيرات جديدة على الخطاب يقحمها الراوي/الفرد/المجموعة بشكل إرادي حينا وبشكل لاإرادي أحيانا أخرى بحكم متطلبات وضعية التواصل الفني الحكي.[8]
ووضعية الحكي/الإلقى /الخطاب أو التواصل الشفوي في الثقافة الشعبية حسب ما تقدم هي وضعية تاريخية بالضرورة أي تتأثر بعوامل الزمان والمكان في راهنيتها وفي امتدادها عبر التاريخ بحيث أن الخطاب الشعبي يمكن أن يحيلنا هنا إلى الظاهرة التاريخية التي تمدنا بمعلومات هامة تسمح بالفهم والتفسير. ويحيل الفهم والتفسير إلى الوضعية التاريخية المعنية بالخطاب الشفوي في مقام أول، لكنه لا يكتفي بذلك ، بل يتسع مجاله الاجتماعي باعتبار شيوع الخطاب وانتقاله عبر التواصل الاجتماعي نقلا وحكيا بين مجموعات أكثر وفئات اجتماعية أوسع. وبالإمكان أن نعتمد بعض التقنيات البحثية لتأكيد أن الخطاب الشعبي من الصعب أن ينسب لشخص واحد أو يعبر عن تجربة فريدة وخاصة.
-
أولا : من الناحية الشكلية للخطاب
فعن الأمثال الشعبية يمكن أن نشير إلى " كليبر جورج KLEIBER Georges الذي انتهى إلى اعتبار أن المثل الشعبي لا يمكن أن يكون حكما على الأشياء صادرا عن الفرد، بل هو خطاب يحمل في طياته البعد الجمعي بامتياز . ولإثبات ذلك الإقرار استعمل تقنيات تحليل لغوية أطلق عليها Dénomination et Déproverbialisation . لأن المثل الشعبي عنده هو صنف لغوي متجانس يمكن مقاربته عبر التحليل الألسني. فكانت نتائجه كالتالي:
-
" إن الذي يستعمل المثل الشعبي ليس هو المؤلف للمثل
-
إن مؤلف المثل الشعبي ليس شخصا" [9]
وبالإستناد إلى أعمال كل من (Anscombre 1994) [10] و ( Dacrot 1975) الذين اهتما بالتعابير القولية وأساليب البرهنة والمحاججة. فإن المثل الشعبي يختزل في تركيبته الإشارة إلى التخلص من كل مرجعية فردية وتكفي بعض الإضافات اللغوية لتؤكد ذالك البعد الجمعي في الخطاب مثل:
أرى أن.... Je pense que
أعتقد أن Je crois que …
في تقديري Je trouve que …
بالنسبة إليSelon moi …….
حسب رأييA mon avis ….
في الحقيقة أن[11]...Visiblement / Franchement
وبذلك فإن المثل الشعبي لا يحتمل مثل هذه الصياغات الفردية بل يتعارض معها مطلقا ويبدو من خلالها التباين بين التجربة الفردية والتجربة الجمعية التي تحشر في السياقات الاستدلالية بهدف تحيز موقع متقدم في التواصل والتفاوض الإتصالي.
-
ثانيا: من ناحية محتوى الخطاب
لكن يمكن أن نتساءل الآن كيف تبرز محتويات النص الشفوي؟ وما هي أبرز سمات هذا الظهور الذي يعكس مستوى معينا من العلاقة بين الواقع والماضي والمستقبل ؟
إن الثقافة الشعبية حيث تعبر عن حياة الجماعة في أبعادها المختلفة واقعا ومطمحا، فهي تتوفر على مقومات تجعل منها إطارا نظريا عاما بتوجه إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجموعة / المنتجة / الناقلة للنص ليرسم فيه ومن خلاله معالم أخرى مفارقة لذلك الواقع ويعبر عن رغبة وعن حلم فيما هو أفضل ونهائي . ولذلك فان تفسير كثرة وجود المقدس ، أو العجيب أو اللامعقول أو ما سمي بالسلوك الخرافي " Comportement mythologique " في النص الشفوي بدرجاته المتفاوتة وأشكاله المختلفة ، ما هو إلا تعبير عن ملامسة لهذا الباراديقم المفارق الذي يسعى للتحرر من الزمنية ليدخل بنا إلى عالم له نظامه وترتيبه الخاص متعال عن الزمن التاريخي للفعل والحدث الحيني والآني ، ملتحقا بالأواني ، ملتحقا بالأزلي والخالد .
إن الثقافة الشعبية تتحرك وفق قوانين وآليات مضبوطة وقد ساهم في تفعيلها رواة فاعلون. كما أن هذه الثقافة تعتبر دالا ومدلولا عن المشاغل المحلية وتمثلات المحليين. ويذكر عبد الحميد لرقش في إطار ذلك قوله:"إن الخرافات تعبر من خلال محاورها الحساسة وشخصياتها الخيالية ودلالاتها الرمزية عن ذاكرة جماعية التي تكون متصلة بهذه المجموعة أو تلك،مسبغة بشكل واضح بالذهنية والتمثلات الشعبية" .[12]
ولما كانت هذه الذهنية المحلية مثقلة بالخوارق والخيال العجيب والغريب فإن الباحث أشار إلى أن خصوصيات الواقع الاجتماعي هي التي أنتجت مثل هذه المضامين وهي المحرك لترسيخها داخل الإنتاجيات الشفوية الشعبية حيث قال:" من المفيد أن نذكر بأن الشروط الاجتماعية التي سبقت نشأة هذه الثقافة الدينية وانتشارها واقتحام العجيب والغريب والخارق للذهنيات الجماعية كانت تتصف بعجز متنام على محاربة الجور وشبح المجاعة والأوبئة والحرب"[13]. ويذهب " حافظ دياب " في تعريفه لما يسميه بالآداب الشعبية بأنها " من ناحية تعبير مكثف عن الأحداث التاريخية والوقائع الاجتماعية الجزئية ... ومن ناحية أخرى تحويل لهذه الأحداث والوقائع إلى رمز وتحولها من واقعها المنفرد والجزئي إلى دائرة العام والقومي ، وحيث عبرهما يحمل الخطاب علامات ودلالا التفاصيل بمختلف مظاهر وعيه وتشكيلاته".[14] وتركز هذه الرؤية في تعريف الشفاهية الشعبية على المنظومة المعرفية والرمزية للمجتمع المنتج للخطاب الشفوي ، لذلك على الباحث أن يستوفد من مشارب وأنساق معرفية متنوعة مثل علم الاجتماع والأدب واللغة والتاريخ وعلم الجمال والأنتربولوجيا وفق رؤية نسقية حول ديناميات الواقع السوسيو-تاريخي ، تسمح يتتبع الظاهرة الشفوية . وتتعلق هذه المنظومة المعرفية والرمزية - دون شك- بمجال الخبرة الحياتية وهي متصلة بمجرى الحياة الخاص و تتكون كما يرى " دلتلي " -أي الخبرة الحياتية - من بنية من المبدئيات عن سلوكات ووقائع حياتية مسلمة باعتبارها موضوعة تتحول عن طريق المقارنة بموازيات ومقابلات إلى معرفة عامة".[15] وذلك يعني أيضا أن مختلف التعبيرات المنتجة لا يمكن تناولها خارج الصلات الاجتماعية للخطاب وخارج العلاقات الاجتماعية وصيرورتها في التاريخ.
إن الثقافة الشعبية من خلال توفرها على الأسطورة واللامعقول يمكن أن تكون حالة عقلية تتكرر في كل عصر ومصر وأن استمرارها باعث على الاعتقاد بضرورتها الإنسانية والاجتماعية وأدوارها الحيوية ، لأنها شكل تعبيري متداع حول الوجود بأبعاده المختلفة فكما أن " الإنسان العادي من خلال أساطيره يعبر عن عدم رضائه عن مفهوم آلية الحركة في الكون ويفضل أن يكون لمدير أمور هذا الكون نفس بواعث البشر وأن تحكم مسيرته وأحداثه نفس اعتبارات البشر "[16]مثلما يقول أحمد أمين ، فاننا نعتبر ان الثقافة الشعبية هي مسار من العقلانية يعمل على التعبير على نحو ما عن عدم الرضا بنظام العلاقات الاجتماعية السائد و يقدم نموذجا أو حلما لما يمكن أو لما يجب أن يكون عليه الواقع ونظام العلاقات الاجتماعية فيه .
بهذا المعنى يمكن أن نفهم وأن نؤول مدار العقلانية في الإنتاج الشفوي الشعبي كشكل تعبيري عن محتوى الثقافة الشعبية ، من الزاوية التي تجعله يطرح كخطة عمل وكبديل عن الواقع لمعالجته أولا ولتحقيقه كهدف ثانيا لأنه يطرح في شكل حكمة أو أنه ليس سوى الحكمة ذاتها خارج حدود الزمان والمكان تخاطب قلقا اجتماعيا ووجوديا ما يمس جوهر كيان الإنسان. والأمثال الشعبية الشفوية يمكن إذن أن تدرج ضمن هذا التمشي العقلاني الاجتماعي.
ويفسر " ميرسيا الياد " هذا السلوك بأنه سعي لخرق اللحظة التاريخية .[17] وهذا الطابع اللازمني يجعل من الشفاهية الشعبية شاملة لأوجه مختلفة من الوجود في وقت واحد .فهي قادرة على أن ترشدنا على الماضي والحاضر وصورة المستقبل Les échelles de références dans la culture populaire لذلك فهي قابلة للاستمرار وتحمل في ذاتها مقومات الاستمرار " إن الآداب الشعبية حدث مستمر يواكب مسيرة البنية التي ولدته ( / نقلته ) ويعيش بين أحضانها ، ولم تقطع حبل وصاله فاصلة تاريخية أو حادثة اجتماعية مهما كانت ظرفية "[18].
ويعتبر استمرار عناصرها الثقافية وصمودها مدعاة لتمتين موقعها لذلك اعتبر " جوتة " المادة الشفوية الحكمة بعينها و" إن كنا نحت لا نعرف مصدر هذه الحكمة فان هذا لا يرجع إلى بلاهة في الحكاية الخرافية و إنما يرجع إلى إحساسنا البليد " [19].
ولذلك أيضا فان النظرة إلى المعقول " واللامعقول " في نصوص الشفاهية الشعبية يجب أن ينظر إليها من موقع يسمح بادراك التجانس والتقارب وعدم التقاطع والتصادم والصراع .
وعلى الرغم من كثرة ما تحتويه الشفاهية الشعبية خاصة في الحكايات الخرافية من عوالم عجيبة باختلاف درجاتها وحدتها وما تتضمنه من صور ومشاهد كالموت والقبر وغيرها من السلوكات المصاحبة والأحداث التي لا تنتمي إلى سجل التاريخ " الرسمي " و إنما إلى سجل التاريخ الميثولوجي الشعبي " لأنها تتوفر على منطق ناظم ومرجع لعوالم متجانسة من خلال صور متناسقة دون تناقضات مثلما يذهب الى ذلك " روجر Rogers Caillois "[20]. وبناء على ما تحمله هذه العوالم من رموز ودلالات تختزل الواقع المعيش، فان ذلك ما يجعلها تختلف عن تلك التي تحظى بمصداقية المؤرخ والجغرافي ، وبهذا المعنى يمكن أن نفهم سبب عدم إدراج ابن خلدون لها بشكل مباشر ضمن المخبر عن الأحداث التاريخية لأنها تصبغ الحدث بمرجعية التفاعل الذاتي الفردي والجماعي بما يحمله ذلك من قدرات مشروطة في الإدراك والتعبير.
وعلى ذلك تصبح الثقافة الشعبية المصاحبة لشتى التفاعلات التي تحدث في المجتمع بمثابة المدخل لدراسة المخيال الجمعي وهو من جهة دالا وجهة أخرى مدلولا مثلما يذهب إلى ذلك عبد الرحمان أيوب في وصفه للمادة الشفوية باعتبارها كما يقول: " النافذة التي يطل منها الباحث على الضمير الجماعي للمجموعة البشرية الحاملة الناقلة للتراث العينة، كما يتجلى هذا الضمير الجماعي دالا ومدلولا في آن واحد " [21] . وحتى تستطيع الذاكرة أن تنفذ إلى هذه الضمير الجمعي أو المخيال الجماعي والرمزي وأن تنشط وتستحضر العناصر التي سجلتها في إطار مجتمع حامل / ناقل للنص الشفوي، فانه لا بد من وجود مثيرات محورية لها من الدفع في القوة والاتجاه ما يجعلها ويؤهلها لأن تكون قادرة على إثارة عناصره الحفظ أي بعض الوسائل المساعدة للذاكرة حتى تقوم بعملية التذكر بشكل إيجابي ، وتختلف هذه الوسائل من متن لآخر سواء كان شعرا أو نثرا أو أمثالا أو غير ذلك من المتون المنتجة شعبيا .
ولعل هذه الصور والرموز التي تلتجئ إليها الذاكرة لإثارة عناصر الإدراك الجمعي هي ولا شك من طبيعة ثقافية بمعنى أنها نتائج ثقافي يخلق عن بنية ثقافية تختلف بالضرورة عن بنى ثقافية أخرى لكنها تحمل صيرورة سواء في إطار تعدد الطبقات الدلالية[22] نتيجة التطور الزمني والتاريخي للثقافة الواحدة ، أو كذلك في إطار اختلاف الحقول الدلالية[23] نتيجة تواقتها الثقافي وحضورها بشكل موازي مع بقية الثقافات الأخرى مثلما يذهب إلى ذلك التحليل السانكروني.
وتندرج مختلف الدلالات للصور الذهنية والرموز المتداولة في النص الشفوي في إطار أعم وهو ما اصطلح عليها "ميشال مافيزولي Michel Maffesoli " بما أسماه " الحوض الدلالي " Bassin Sémantique"[24] .
إن كل مجموعة بشرية متجانسة لها أسلوبها في نقل مضامين قيمها ومعارفها وخبرتها الى أجيالها وإلى التواصل عبرها بين أفرادها وهو ، في المستوى المعيش، في غنى عن المؤرخ الرسمي الذي قد يحركه هذا الدافع أو ذاك لينحاز بوعي أو بدونه إلى مشاغل قد تتطابق مع اهتمامات المجموعة المحلية وقد لا تمت إليها بصلة. وستعمل المجموعة المحلية بكل جهد وجد على تضمين محتويات ذاكرتها الجماعية ومخيالها التي كونتها لنفسها طيلة تاريخها، في صياغات تناسب الذوق العام والسائد. ويتحمل الجميع مسؤولية نقلها وتواترها لأنها تحتوي على عناصر صدقها.
-
رهانات الفاعلين من خلال الثقافة الشعبية.
إن الظاهرة اللغوية عموما والشعبية منها على وجه الخصوص ( الدارجة ) في إطار علاقتها بالصور والرموز داخل الحوض الدلالي الواحد ، قد تبدو إجماليا متجانسة في عناصرها وموحدة في أسلوبها واختزالها للدلالات وتمثلها للتصورات وللرموز، إلا أنها في حقيقتها تنطوي على مجموعة من الطبقات أو الشرائح "Couches " اللغوية المتراكمة تبين عن مشاعر متباينة للأصناف الاجتماعية التي تتعامل بها كما تحتوي على عدة نماذج من التصورات عن طريق الصيرورة التاريخية نتيجة الاحتكاك اللغوي ، تنعكس جليا في النصوص الشفاهية. لذلك فإن النص الشفوي ليس معطى نهائيا مباشرا بل يختزل في دلالاته الصراع الداخلي بين الفئات الاجتماعية ولا نراه بالتالي معبرا عن اتجاه وحيد مثلما يبدو من أول وهلة لأنها ليست خطابا رسميا. ونحن على هذا التأويل والفهم لا نتفق مع الأستاذ الهادي التيمومي في نقده للأمثال الشعبية عندما يصنفها ضمن انتاجات الأبنية الفوقية التي تحافظ على روابط الواقع الذي أنتجته[25]،
ويفيدنا علم الاجتماع اللساني هنا بتحليل المنطق الاجتماعي في التفكير واستعمال اللغة وقد عمل على تأسيس هذا الترابط بين اللغة والمنطق الاجتماعي في إطار مفهوم النعت الاجتماعي Marquage social (social marquing) ، وهي فكرة تسمح بتبيان "أن الأثر التنظيمي لمبادئ التعديل الاجتماعي تتدخل في التعديل المعرفي المنظم لأشكال التفكير حول الأشياء" [26]وبالتالي فإن الفرد لا يمكن أن ينتج أو يفكر خارج مكانته الاجتماعية Statut social بفضل آليات التعديل المعززة لإدراكاته ومنطق تفكيره.
هذا التدخل من التعديل المستمر يمكن فهمه في إطار مفهوم آخر وهو الصراع المعرفي الاجتماعي، حيث أن الإجابات الناتجة عن المبادئ المنظمة لتعديل ما أو لتمثل اجتماعي معين يمكن أن تصطدم عند الفرد بالإجابات الناتجة عن المبادئ المنظمة لأفكاره حول الأشياء والأدوات، ويعمل هذا الاصطدام على إقحام عناصر من لمرجعية الاجتماعية داخل الخطاب اللغوي في إطار دلالي أو رمزي ما. ونضطر بالتالي إلى التعامل مع اللغة تعاملا حذرا لكونها إضافة إلى دلالاتها المتأتية من التركيب النحوي في الصياغة، والدلالات المتأتية من الرموز المتداولة، فإنها تنشئ أيضا دلالات محملة بالتجربة والخبرة الاجتماعية في سياقاتها التاريخية.
وإذا اعتمدنا هذا التحليل للمنطق الاجتماعي في الصياغة اللغوية بما يحيل إلى النعت الاجتماعي في التباين بين الفئات الاجتماعية الذي أشرنا إليه في موقع الفعل من روابط شبكة العلاقات الاجتماعية، فإننا يمكن أولا أن نستثمر ما ذكره الأستاذ "عبد الحميد هنية" من أن المقولة، أي المثل الشعبي المعتمد، ينبني أو يتحالف مع إيديولوجيا تجد مبررا لها وشرعية في النظام الاجتماعي لمدينة تونس حسب منطق تحليل " بورديو" وشكلت اتفاقا حول مبدأ للتصنيف الاجتماعي حيث ساعد انتشارها على تضمينها واستبطانها، وقد عكست ما يعبر عنه بترويض المهيمن عليهم domestication des dominées على حسب عبارة ماكس ويبر Max weber .[27]
ويشير ميشال نيكولا Michel Nicolat في كتابه حول الديناميات العلائقية والمسارات المعرفية[28] أنه يوجد مساران لإنتاج المعنى في الخطاب:
-
الأول: له علاقة بقواعد استعمال الرمز وتكوين تركيبات لغوية قابلة للفهم والتأويل
-
الثاني: هو مسار دلالي يعود إلى تطبيق النعت الاجتماعي حيث يعاد تأويل عناصر الرسالة حسب مسلمات أو معطيات مسبقة من ناحية، والى خصائص السياق ورهانات الوضعية من ناحية أخرى.
وهذا يعني أن اللغة قابلة لاحتواء عناصر للتنظيم الاجتماعي تسعى من خلاله إلى إنشاء نوع من التعديل، وبما أن اللغة هي أداة للتواصل والتفاعل وحبك العلاقات الاجتماعية، فإن التمثلات التي تختزلها تعمل كعناصر ومبادئ لتنظيم المسار الرمزي وتتدخل بذلك في العلاقات الاجتماعية.
-
رهانات الفاعلين الأفراد وفق المعنى الذي يسندونه للمضامين الثقافية المتناقلة .
-
رهانات المجموعات: الفئة أو الطبقة باعتبار مشاغلها وصراعها مع غيرها.
-
رهانات التنظيم الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية القائمة والسائدة.
-
رهانات الطبقة المسيطرة والمهيمنة.
هذه الرهانات تختزل كل منها استراتيجيات اجتماعية موظفة في ذلك كل الوسائل والأدوات والمضامين والرموز والأفكار اللازمة سواء منها المستحدثة أو المحايثة أو الماضية أو الجارية. وهي استراتيجيات موازية ومحايثة ومتداخلة العناصر . كما أن هذا التداخل لا يعني سوى الترابط التفاعلي بين الفئات الاجتماعية في إطار الوضعية التاريخية. والترابط التفاعلي هو انتقال الرموز وأثرها الدلالي بين العناصر المكونة للوضعية بحكم تأثير المعيش وضغط الأحداث على إدراك الأفراد ووعيهم.
فالاستراتيجيات الاجتماعية تبنى وتفهم على هذا الأساس بحيث أن التناقض أو القطيعة بين الاستراتيجيات فيما بينها من الصعب أن تجد لها مكانا في المستوى الثقافي والدلالي والرمزي.
-
المستويات المرجعية في الثقافة الشعبية .
إن الثقافة الشعبية هي نتاج الواقع المعيش الراهن والتاريخي الذي يتكرر باستمرار ويتواتر لدى فئات واسعة فيسعى لأن يتحول في شكل رمزي من خلال صور ذهنية وتمثلات اجتماعية تتصل بالذاكرة الجماعية، ويفيد ذلك أن الثقافة الشعبية مسار إنتاجي اجتماعي تتجلى عناصره من خلال الممارسة اليومية والوضعيات المعيشة التي ترشح أدبيات معرفية مشتركة تحيى بها المجموعة البشرية ومن خلالها وتعالج بها المشكلات التي تطرأ أو الإحداثيات في الحياة اليومية.
وفي أثناء ذلك تسعى المجموعة البشرية إلى استثمار هذه المعرفة وتطوير أدائها واستغلالها في شكل رموز قابلة للتواصل والتبادل وتحظى باعتماد واسع الانتشار. إن هذا التبادل والانتشار الواسع يكثف من استعمال الرموز ويدعم الانتقائية المركزة التي تنتج صور ذهنية وتمثلات اجتماعية مشتركة.ولئن تستعمل الرموز حسب توظيف شخصي في إطار اجتماعي ، فإن الصور والتمثلات تنتج وفق حدة تواتر الرموز وتهيئ لفضاء تجريدي مشترك يحظى باتفاق جمعي قادر على أن يتحيز موقعا متقدما في الذاكرة الجماعية.
ذاكرة جماعية صور وتمثلات رموز معرفة مشتركة ممارسة يومية |
مستويات تشكل الثقافة الشعبية |
إن طرح هذا التمشي التجزيئي للثقافة الشعبية بقدر ما هو اعتماد للضرورة المنهجية فهو إنتاج إجرائي لبلورة مستويات الثقافة الشعبية من ناحية ومعرفة إمكانيات التفاعل والتقاطع مع غيرها من الممارسات حيث تسمح لنا بمعرفة درجات السلم المرجعية في الثقافة الشعبية التي يتفاوت ارتباطها بالواقع المعيش وبأنظمة ثقافية مواكبة لها مكانيا وزمانيا إضافة إلى علاقتها بالعوالم المرجعية الممتدة عبر الزمان.
وتترشح بدايات الثقافة الشعبية وتكونها انطلاقا من التواصل الإجتماعي عبر المسالك الخاصة بالممارسة اليومية في تعددها وتنوعها لتتبلور على إثر ذلك معرفة مشتركة تعتبر تأكيدا على التوافق والمصالحة بين الثقافة والمجموعة لأن مسار تعزيز علاقة الثقافة بالمجموعة والمجموعة بالثقافة من خلال الأشكال الاجتماعية في التواصل، هو الذي ينتهي الى انتاج معرفة أو معارف مشتركة ومتقاسمة منتشرة ومتداولة بين جميع الأفراد. وفي هذا الإطار يوفر المجتمع أدوار الوساطة لتفعيل هذه العلاقة التلازمية وتأكيد شرعيتها في جميع الممارسات الاجتماعية.
وعلى ذلك فإن هذه الممارسات حينما تتكثف فإننا نعتبرها قادرة على نمذجة Typification سلوكات وإنتاج عناصر معرفية حولها ،وذلك أن الوضعية Situation أو السياق Contexte حسب المنهج الإتنوميتودولوجي هي إطار منتج للمعرفة ، يغذي الواقع بإمدادات معلوماتية ذات خصوصية لا يقدر على توفيرها واقع آخر غيره على اعتبار أن الواقع ذاته هو انتاج اجتماعي مثلما يذهب اليه علم الاجتماع المعرفي.ومثلما أن المجتمع له أسلوبه في إنتاج الواقع الذي يرتضيه ويعيشه فإن الواقع من خلال سياقاته ينعكس على منتجه ويعمل على احتضان المعرفة التي تتحرك داخلها المجموعة البشرية .
أما فيما يخص التمثلات الاجتماعية فهي مستوى متقدم من المعرفة المشتركة لأن الصور الذهنية التي ينتجها مسار الواقع الاجتماعي يتخذها بعد ذلك كإطار لفهم الممارسة وتفسيرها ونقلها وفهمها في إطار المعرفة التي ينتجها، ولذلك فإن هذه التمثلات لها طابعا مزدوجا تتحدد من خلالهما:
طابعا "تواقتيا " تتعامل وفقه المجموعة وتتبناه في ممارساتها اليومية حسب وضعية محددة.
طابعا "تاريخيا" قادر على استيعاب الاختلاف في الواقع والتعدد في المراجع لأنه يتشكل في إطار زمني ممتد.
-
الآليات الاجتماعية الداخلية لتعزيز التواتر والتكرار في الثقافة الشعبية.
إن اعتماد هذا التحليل في استكشاف دور آليتي التواتر والتكرار في بناء المعرفة المشتركة وأنظمة الرموز ودلالاتها إضافة إلى بلورة خاصيات التمثلات الاجتماعية، يؤدي الى استخلاص مجموعة من الوظائف الأساسية داخل المجتمع تعمل جميعها كآليات على تعزيز التواتر والتكرار في الثقافة الشعبية وهي:
-
عناصر مشغلة لنشاط الذاكرة déclencheurs .
-
عناصر الوساطة تسهل تبادل المعلومات وتنمية المعرفة المشتركة
-
عناصر تحث على تبادل المادة الثقافية وتلعب دورا محوريا في التكرار.
-
عناصر تساعد على حث الطلب نحو التكرار.
-
عناصر مثيرة لتمتين الحفظ داخل المجموعة البشرية.
-
عناصر تساعد على تحقيق التذكر.
-
عناصر تؤمن المتون اللازمة حسب خصوصيات كل وضعية بالممارسات الثقافية.
-
عناصر تعمل على إتاحة قرص اتصالية لتحقيق التواتر في شكل اجتماعي.
إن هذه العناصر باعتبارها آليات اجتماعية تعمل على تحقيق التواصل الاجتماعي هي ضرورية لترشيح العناصر الثقافية للثقافة الشعبية وتعبيراتها الفنية ، بشكل متداخل في العوالم المرجعية. لذلك فهي تشكل مرجعا لتبلور التشكلات الاجتماعية أو العوالم المختلفة في البناء الاجتماعي. لقد انتهى " كلود ديبار" إلى أن الاتجاهات الكبرى في تفسير التطور الاجتماعي حققت إخفاقا [29]من خلال اعتمادها على تفسير أحادي بناء على منطقها. و لذلك عمل على استخراج أربعة تشكلات اجتماعية متباينة انطلاقا من تحليله لتلك الاتجاهات الكبرى . واعتبرها أنماطا من مسارات للتنشئة والتطور الاجتماعيين وهي: الثقافيةculturelle والسردية narrative والتأملية réflexive والنظاميةstatutaire ، حيث أن التقاطعات بينها تنتهي بتكوين تشكلات نموذجية تاريخية لكنها متعايشة في الحياة الاجتماعية.
وقد كانت لنفس الباحث محاولات أخرى من هذا القبيل لتفسير أشكال بناء الهوية والعناصر الثقافية المميزة لها لدى فئات اجتماعية مثل " العمال". وانتهى أيضا إلى إيجاد تصنيفات لنماذج سلوكية معينة منها: "العامل الثائرouvrier contestataire" و العامل المندمج ouvrier intégré " و" العامل المستسلمouvrier résigné "[30]. لذلك فإن الواقع الاجتماعي قادر على مدنا بنماذج سلوكية متعددة تعبر عن مختلف عناصره وتشكلاته. وقد عملنا بدورنا على البحث في هذه التشكلات انطلاقا من العناصر الثقافية التي تم رصدها وتدعيمها . وهي تشكلات قادرة على تفسير مجموعة من السلوكات المختلفة في الحدة والاتجاه وتتواجد معا في الحياة الاجتماعية بالإيالة التونسية خلال القرن التاسع عشر.
-
الثقافة الشعبية كتصنيف معرفي.
وعلى أساس هذا الثراء المعرفي الذي يزود به الواقع أدبيات الثقافة الشعبية فإنه يتأكد أن الثقافة الشعبية تتسع لمعارف كثيرة مشتركة ولا تتقابل أو تتعارض في جوهرها مع المعارف الفرعية الناشئة بل هي التي هيأت لوجودها وأصل انبعاثها ونشأتها. ولذلك تعتبر الأشمل في الممارسة والإنتاج والمعرفة. ولن تكون ثقافة النخبة أو الثقافة الرسمية أو ثقافة الطبقة أو المدرسة أو الثقافة الفرعية للشباب وما تنتجه جميعها من معارف خاصة، إلا جزء من هذه الثقافة الشعبية حتى وإن اتخذت أشكال هذه الأخيرة أحيانا مظاهر حادة أو مهددة لوجود بعضها البعض.
فعبارة "صنعة بوك لا يعايروك" في اللسان الشعبي تعني المطالبة بتحيز موقع ضمن التبادلات الاقتصادية والمشاركة في هذا النظام كطرف فاعل ومنتج ، كطرف يسعى لتحقيق الكسب، وذلك يعني ضمنيا رفض موقع التهميش الاقتصادي حيث يكون الفرد عالة على المجتمع ينتظر الرزق من كسب عمل الآخرين. ولكنه في نفس الوقت يشير إلى بوتقة النظام الاقتصادي الذي تمت صياغته اجتماعيا تحت ترتيب الفاعلين الكبار وتطويق هذا النظام بمقولات لحمايته من الاختراق وبالتالي حماية الفاعلين من ورائه.
إن هذا المطلب قد يعبر ضمنيا عن نقد اجتماعي صريح للاحتكار في منظومة الكسب والعمل، هذا الاحتكار يثبّت صورة معينة للواقع الاجتماعي لفائدة فئات اجتماعية محددة، والتي من الصعب جدا أن تسمح بدخول أطراف أخرى للمنافسة في سوق العمل، فالمطالبة بنفس صنعة الأب لا تعني سوى عدم القدرة على تحقيق خلاف ذلك نتيجة القوانين والأعراف المعمول بها في نظام العمل ونظام التنظيمات الحرفية Les corporations . فهذا النظام لا يسمح بسهولة امتلاك الوسيلة القادرة على أن تضع صاحبها جنبا إلى جنب مع الأعراف داخل السوق كما لا يسمح بخرقه من أي كان.
وقد توجهت عدة انتقادات في قراءات تاريخية لمنظومة العمل هذه باعتبارها إضافة إلى ضغط الضرائب الجمركية التي تتعرض إليها فإنها تضعف من المنافسة وتتوارث فيها المهن والحرف وملكية الحانوت مما يؤثر على الكفاءة وتطوير جودة المنتوج، كما أصبحت هذه الحرف تخضع لمنطق ومسالك جديدين حيث ارتبطت المواد الأولية بشكل جذري بالأسواق الخارجية، وساعد احتكار التوريد والتصدير على عدم استفادة الحرفي بشكل مباشر من نتائج أعماله، الشيء الذي جعل الحانوت لم يتطور بشكل جذري لمواكبة مستجدات السوق.
لقد بينت لي دراسة المجتمع التونسي قبل الاحتلال الفرنسي أنه ليس من السهل أن يتم حشر الفئات الاجتماعية ضمن البناء الثقافي الوحيد لأن اتجاهات الفعل متباينة وغير متوافقة في إطار وضعيات تاريخية محددة( ثورة علي بن غذاهم) ويبرز هذا التباين في تباين التمثلات ومشاريع الفعل التي تتأطر ضمنها وتوجهها.
فمن خلال وضعيات "العلاقة مع المال" كمثال تبين أن الواقع يستوعب اتجاهات أربع أساسية تشكل كل منها عقلانية مميزة في التعامل مع متغيرات الواقع وتحمل بالتالي عناصر ثقافية مناسبة لأشكال الفعل التي تتخذها وتبرر بها أسباب قيامها بذلك.
ولم تكن هذه التشكلات من العناصر الثقافية تعمل في شكل جزر مستقلة متباعدة وإنما بالعكس تماما فهي متواصلة فيما بينها ومتحركة داخل مجتمع القرن التاسع عشر بالبلاد التونسية في توافق وتناسق، ولها قابلية الاستفادة من محيطها إذا توفرت لها من القوة والاتجاه ما يسمح لها بمزاحمة غيرها من التمثلات وتحيز موقع ما بين عناصرها المتشابكة والمتراتبة. وتعمل هذه التشكلات لا فحسب كبنية فوقية ناتجة عن خاصيات الحراك الاجتماعي وأدوات الإنتاج وتوزيع الثروة في المجتمع، وإنما أيضا كمحرك لنظام العلاقات الاجتماعية الذي يؤثر في التعامل مع الوسيلة ويثبّت علاقات مؤسّسة في السلوك وفي مداه الزمني والدلالي للفاعلين، وتنعكس بشكل مباشر على ملامح تكوين الشخصية الأساسية، واتجاه الفعل لديها الضمنية والممكنة والمتوقعة، والمرجعيات الدافعة لتشكيل الممارسة.
إن تلك العناصر الثقافية التي تم رصدها من خلال عقلية الحد الأدنى، إذن هي نوع من التفويض يعبر عن تعويض لمتطلبات الواقع المتأزم في مجال الفعل مشحون بانتظار لغد أفضل عملا بمقولة " الي عند ربي خير" وتسويف دائم وقائم على أمل وحلم في مستقبل أفضل. لذلك فإن المجتمعات التي تتوفر على عناصر ثقافية من هذا النوع ومنها مجتمع الإيالة التونسية خلال القرن التاسع عشر ، تعمل على انتاج نموذج اجتماعي – طبعا إلى جانب النماذج الاجتماعية الأخرى التي أشرنا إليها والمناقضة لها في الاتجاه- لا تنظر كثيرا إلى حاضرها والى معيشها، وإنما تظل ترتقب المستقبل فهو الأمل وهو الحلم الذي يرونه قريبا ، لأنه يوظف العمل والفعل والوسيلة في اتجاه المحافظة على الحد الأدنى للبقاء ويتجه نحو القدر بالمعنى الذي يعطي أسبقية لفعل الآخر لاسيما السياسي منه.
إن جميع هذه التمثلات والنماذج السلوكية التي تم استخراجها هي نتاج حركي للثقافة الشعبية في امتداداتها المتنوعة، ونعتبرها في تحليلنا نوع من العقلانية الاجتماعية المبنية على ادراك خاص لمعطيات الواقع وتحليلها بشكل يجنب أصحابها مزيد الوقوع في الأخطار مثلما أن وجها من العقلانية فيها يكمن في أن اختياراتهم تلك تسمح بالوصول إلى وضع يعتبرونه الأفضل من وجهة نظرهم أو وجهة نظر الأغلبية منهم في إطار الرهانات المطروحة.
وتطرح معالجة التشكلات الأساسية، التي تفرزها الثقافة الشعبية، وفق المعطى المحلي مع مختلف الفئات الاجتماعية التي تتوفر على أرضية عامة مشتركة من العناصر الثقافية حسب تشكلات تعطي لممارساتها اتجاهات متقاربة، وعقلانيات متباينة، وتعتبر السلطة في إطار ذلك عنصرا فاعلا في ديناميكية التمثلات، وفي المحافظة على التوازنات الأساسية وتوجيهها نحو التحديث وخاصة منها حركة الفعل في اتجاه تكريس الثقافة السائدة، وإعادة إنتاج العناصر الثقافية ذاتها. مما ساهم في تباين الاستراتيجيات الفردية والجماعية، وبروز بعض العقلانيات الاجتماعية التي تنتصر لمظاهر فتور الحراك الاجتماعي العام ، وتحويله إلى أطر غير واقعية، وتشكيل بنائه على أساس عقلية الحد الأدنى التي تعتمد على قواعد مثل: " تغيير الحال من المحال" و " درء مفسدة خير من جلب مصلحة" وأهون الشرين" ، وباللسان الشعبي " شد مشومك لا يجيك ما أشوم". وهي مقولات تتوافق في أحد أبعادها مع المنطق السني في التغيير السياسي بشكل عام.
هذه الأمثلة وغيرها وجهت البحث نحو عدم التقييد بالتشكلات المغلقة أو التشكلات التي تنعكس على فئات معينة دون غيرها لأن الثقافة الشعبية تنتج مسارا من التمثلات الاجتماعية هي خارقة للتوزيع السياسي والتوزيع الديني والتوزيع الاقتصادي والتوزيع الاجتماعي، فهي تتخللها جميعا وتتخذ لها موقعا بدرجات متفاوتة ضمن بناء وتشكل الشخصية الأساسية.
ويسمح عرض التشكلات الأساسية المتحركة للعناصر الثقافية بهذا الشكل، في أبعاده التحليلية، بالقدرة على استيعاب الممارسات الاجتماعية في الحياة اليومية والتمثلات العامة المصاحبة لها وعناصرها من الثقافة الشعبية، والتي ترتكز جميعا على التنوع في الممارسة، والتنوع في المراجع، والتحول المطرد الذي يلحقها باستمرار، ويختزلها الفرد في تنشئته الأساسية، ويعمل المجتمع على إعادة إنتاجها وتوضبيها وفق خاصيات ومتطلبات المرحلة الحضارية التي يعيشها. فتتفرع عنها تشكلات واتجاهات . وعلى ذلك اعتبرناها عقلانيات اجتماعية، وهي دلالات لا يمكن أن تكون فوق تاريخية بل إنها نابعة من صميم التجربة الفردية والجماعية حيث يتموقع الفعل بين الزمنية التاريخية وزمنية المنطق الاجتماعي.
إن هذه الأفكار تدفعنا إلى مزيد الحرص على التحديد المفهومي للمصطلحات المستعملة كما أنها تلفت انتباهنا إلى المآخذ التي توجه لمزيد تعميق النظر فيها وبلورتها، وفي إطار ذلك وأخذا بعين الإعتبار ملاحظات الأستاذ عبد الحميد هنية ، لذلك فإننا نستعمل هنا المصطلح " الثقافة الشعبية" كتصنيف معرفي يتوجه بالأساس إلى المجموعة المتجانسة ، كما يمكن أن ينسحب على جماعات بشرية لم يتبلور فيها مفهوم الشعب بعد، كالقبيلة مثلا. ففي إطار القبيلة ونظرا إلى التشارك في الظروف الموضوعية المادية والاجتماعية والثقافية، فإنه تتولد مجموعة من الرموز غير المادية التي تتحول شيئا فشيئا ،إلى مخيال مشترك وذاكرة جماعية تعكس هواجس المجموعة وثقافتها المهيمنة كما تتضمن أيضا بأشكال متفاوتة الصراع الداخلي الذي يبرز في إطار الحراك الاجتماعي والاقتصادي بين الأفراد.
ولكننا بالإمكان أن نفترض أن بعضا من تلك الرموز يمكن أن نجد لها شبيها في إطار دلالات خاصة لدى مجموعات قبلية أخرى . ومثال ذلك واقع البلاد التونسية ما قبل الاستعمار الفرنسي، فإذا علمنا أن المجال يساعد على التقارب بين تلك الرموز فإن القول بأن الإيالة التونسية مع التقدم الزمي خلال القرن التاسع عشر استطاعت من خلال فعلها المتواصل في المجال وخاصة عن طريق الجباية أن تهيأ أرضية متقاربة من ردود الفعل تجاه السلطة المركزية، فالقبائل بالإيالة التونسية خلال القرن التاسع عشر ليست متناثرة وعديمة التواصل إيجابا وسلبا ، بل هي متواصلة فيما بينها ومتواصلة مع المركز، ونعتبر أن ثورة علي بن غذاهم سنة 1864م هي نوع من ردة الفعل التي تعبر عن تنامي الوعي بالمجال عبر ما خلفته قوة الأثر للسلطة المركزية. كما يمكن أن نعزز هذه الفكرة بمثال الحياة الجماعية داخل المدن الكبرى كتونس مثلا ،حيث ترتقي الحياة الجماعية لتنتج صورا من الحياة وتمثلات لها ليست موحدة بالضرورة ولكنها لم تكن لتنتج إلا من خلال تلك التفاعل الجماعي في مسارها التاريخي، وذلك بالرغم من سيطرة النزعات القبلية بين الأفراد في العلاقات.
وعلى ذلك فإن الثقافة الشعبية هي تصنيف معرفي تعبر عن رهانات منتجها وناقلها وتشمل مجموعات اجتماعية تاريخية
-
استراتيجيات الفاعلين في الثقافة الشعبية.
إن الفئات الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في مرحلة الحداثة وما بعدها، بجميع أصنافها تعيش حالة من الدينامية التي لا يبرز صداها بيسر ولا تعبر عنها كليا واجهات اعلامية أو رسمية، وأغلب البحوث الجامعية اليوم تشير إلى ضعف فعالية المجتمع المدني من خلال ما يلاحظ من ضعف المشاركة الاجتماعية والسياسية. كما أن التوترات الاجتماعية تعاش وتحس وتتبادل بشكل مواز دون المسالك المعلنة والمعهودة والرسمية. فأين يوجد ذلك الذي نسميه مجتمعا؟ ماهي لغته؟ وما هي قنواته الاتصالية؟ وكيف يعبر عن هواجسه ومشاغله؟
إننا نعتقد أن الثقافة الشعبية هي التي تؤطر الممارسات الثقافية للفئات الاجتماعية حيث تعيش فيها ومن خلالها واقعها وتنقل عبرها أحاسيسها وتتواصل مع أجيالها وتحاور به غيرها الآخر القريب والبعيد وفق ما ترتئيه من صيغ وأساليب تناسب هذه الحركية. وعلى هذا الأساس تبدو التناقضات والثنائيات في التعابير الثقافية ظاهريا بارزة وحادة في أغلب الأحيان بين الحل والقدس وبين القول والفعل وبين المصرح والمضمر وبين الحضور والتواجد وبين المشاركة والانسحاب وبين المعلوم والمجهول وبين المعبر والمسكوت عنهما وبين الواقعي والخيالي وبين المباشر والرمزي وبين الحقيقي والأسطوري وبين الذاتي والموضوعي وبين المبادرة المسؤولة والتفويض وبين المادي واللامادي.
إن هذه الثنائيات في العناصر الثقافية المنقولة والمتداولة من خلال التعابير الثقافية المتنوعة( شعرا، أمثالا وحكما، قصص، نكاتا...) التي تدخل الحيرة في صفوف الباحثين ويصعب معها التعاطي وفق المنطق (منطق الباحث)، نعتبرها بمثابة استراتيجيات اجتماعية لاستدامة البقاء الاجتماعي والحماية من التهديدات الخارجية عبر ضمان نظام تواصلي ثقافي ثري ومتنوع ومعبر ودال. وتشير الأبيات الشعرية التالية إلى بعض من الثنائيات الهامة ومنها:
ياقليبي لو يقذفوا عرضا احفظ الميم هي الجواب العالي
إذا كان الكلام من الفضة اعلم الصمت كالذهب الغالي
يا قليبي في ذا الزمان الصمت إيلو شان احبس لسانك وزيد عليه بسجان
ارع ذمام الي يرعاك واحذرو عنك بنفسك وجنب كل خوان[31]
والصمت هو خاصية أو ظاهرة اجتماعية، كما يمكن أن يكون موقفا مقصودا نتيجة للعواقب المترتبة عن الكلام أو إبداء الرأي علنا وهذا ما نلمس له آثارا في الشعر الشعبي الذي نجهل مؤلفه حسب رواية "سوناك Sonneck " والذي تم رصده خلال القرن التاسع عشر بالبلاد التونسية:
وفي الأمثال الشعبية التونسية نجد:"اذا كان الكلام فضة يكون السكات ذهب"، وذلك لأن الصمت الوارد بين فقرات الكلام هو أشد تعبيرا وأكثر دلالة وبالتالي فهو،يتضمن كلمات مصرح بها وأخرى مسكوت عنها ولعل قيمته تكمن في القدرة على استخراج خبايا هذه الخفايا وتأويل المنطوق حتى يمكن الظفر بالدلالة والمعنى الذي يبقى منشودا في المخيال الجماعي.[32]وأما بالنسبة إلى الحكايات الشعبية فإنه بالإمكان أن نشير إلى الدلالات التي تحملها المقدمات الاستهلالية التي تؤكد أن القول والخطاب الروائي يحمل في طياته ترتيبا حسنا ومبدعا رغم ما يبدو عليه من عجيب القول:
" يا سادة يا مادة يدلنا ويدلكم للخير والشهادة كلامنا عجيب أحسن ترتيب أحنا واياكم نصليو على النبي الحبيب"
ويبدو أن قدرة النص الشفوي الشعبي على إخفاء معالم كنوزه وإمكانياته تعكس مستوى خبرات المجموعة البشرية الحاملة/الناقلة للنص ،في استثمار تجاربها. وليس بالإمكان التمكن من الظفر بكنوز التعبيرات الفنية والنفاذ إلى مميزات الثقافة الشعبية والكشف عن آليتها وخصوصياتها لأنها سر من أسرار وجودها واستمرارها.والمثل الشعبي أو الحكاية أو النكتة أو الشعر الشعبي أو الإشاعة ...هي إحدى الوجوه الفنية التي تعبر بها ومن خلالها المجموعة البشرية عن واقعها وتعكس رغباتها وآمالها وأحلامها وبالتالي صورة ذاتها.[33] والقدرة على معرفة هذه الذات هي في حد ذاتها كنز وثروة إلا أنها ليست في متناول الجميع.
ومن الصعب جدا أن نقول أن الوسائط الحديثة للاتصال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، استطاعت أن تنقل احتياجات المجتمع وتطلعاته وأن تعبر عن هواجسه( عند الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خاصة)، أما في المجتمعات الغربية حيث دمقرطة الثقافة والممارسة الاعلامية فبالرغم مما حققته من انتشار واسع في الوصول إلى مختلف الفئات الاجتماعية ، إلا أن هذه الوسائط لا تزال تلقى الكثير من النقد في هذا الاتجاه خاصة فيما يسمى بالاستهلاك الثقافي. وأمام هذا العجز تلتجئ الثقافة الشعبية إلى عوالم مرجعية لا تلتزم بالضرورة بحدود الفئة الاجتماعية أو الطبقة أو بمرجعية الفئات المهيمنة والمهيمن عليها محاولة في كل مرة التنصل من النماذج النظرية والقوالب التي يحبكها الباحثون خاصة.[34]
[1] يمكن أن نشير إلى أن أفكارا كثيرة حول الثقافة الشعبية تعتبر امتدادا للنقاشات الجارية في الغرب حول الموضوع. وقد برزت هذه القضايا والنقاشات في العدد الخاص لدورية Esprit التي تصدرها نشرة المكتبات بفرنسا.
راجع: « Esprit », BBF, 2002, n° 4, p. 121-123
[en ligne] <http://bbf.enssib.fr/> Consulté le 12 avril 2010
[2] بعض هذه الأشكال وجدت بالمغرب العربي وسميت بـ"الحلقة" حيث يجتمع الراوي بالناس في شكل دائري وفق صفوف متعددة ثم يعمل الراوي على القاء الحكاية محاولا تجسيد بعض الفقرات داخلها. و يتحرك في فضاء مكاني دائري يرسمه بعصاه. ويتخلل عمليات السرد إلقاء أغاني شعبية يؤديها باستعمال الدف ، كما يعمل الراوي طيلة السرد على تشريك الجمهور باستدعاء شخص الى فضائه الخاص وتجسيد بعض الفقرات السردية من خلال ما يبدو من خصائص مادية على مظهره، ثم يتوقف الراوي عن السرد لينتقل بانتباه الجمهور في ضيغة سلسة إلى موضوع آخر له علاقة بالواقع الخيالي للمجموعة المشاركة. وعند العودة الى مواصلة السرد يطلب الراوي من ذلك الشخص تذكيره بالحدث الذي انتهى اليه في عملية سرد الرواية ، وفي صورة عدم التذكر فإن يقدم قيمة مالية للراوي ليتم تسريحه وإعادته الى مكانه وسط الجمهور. ثم يتواصل سرد الرواية بعد إلحاح من الجمهور وبعد أن يكرر الراوي بعض المقاطع الغنائية وإلقاء ما تيسر من النقود في الدف الذي بحوزة الراوي.
[3] يعتبر عبد الوهاب بوحديبة أن الحكايات الشعبية في المجتمعات العربية والإسلامية بنت على التراث المسرحي اليوناني واستثمرته كشكل من أشكال التعبيرات الفنية وقد أبدع الخيال العربي فيه بشكل يناسب التطور الحضاري الذي وصلت إليه الثقافة العربية والإسلامية.
[4] ذكر خليفة الخياري في مقاله تاريخ القصص الشعبي في تونس أن الراوي في بعض الأوقات لا يجتمع بالناس إلا باسترخاص مسبق من الأمير وذلك لخطورة الدور الإجتماعي والسياسي الذي يمكن أن يلعبه الراوي.راجع مجلة الإتحاف ،الشهر:سبتمبر،السنة: 1995، ص. 25وما بعدها.
[5] يقوم طلبة المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي في السنة الثانية من التكوين بتربصات ميدانية تحت عنوان الدراسات المونوغرافية وتتعلق بالمشهد الثقافي العام المميز وبالممارسات الثقافية للمجموعات المحلية. ولئن أنتجت أنتجت هذه التربصات معلومات مميزة وهامة حول عناصر من الثقافة الشعبية إلا أن استثمارها في إطار مشروع علمي لا يزال ضعيفا ويتطلب مشاريع تنشيطية تعتمد وتستند الى المعطيات العلمية الإتنوغراقية المتوفرة من خلال هذه الدراسات.
[6] Le culte de la «culture populaire» n'est, bien souvent, qu'une inversion verbale et sans effet, donc faussement révolutionnaire, du racisme de classe qui réduit les pratiques populaires à la barbarie ou à la vulgarité: comme certaines célébrations de la féminité ne font que renforcer la domination masculine, cette manière en définitive très confortable de respecter le «peuple», qui, sous l'apparence de l'exalter, contribue à l'enfermer ou à l'enfoncer dans ce qu'il est en convertissant la privation en choix ou en accomplissement électif, procure tous les profits d'une ostentation de générosité subversive et paradoxale, tout en laissant les choses en l'état, les uns avec leur culture ou leur (langue) réellement cultivée et capable d'absorber sa propre subversion distinguée, les autres avec leur culture ou leur langue dépourvues de toute valeur
sociale ou sujettes à de brutales dévaluations que l'on réhabilite fictivement par un simple faux en écriture théorique.
Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, 1997
[7] Dominique Pasquier « La « CULTURE POPULAIRE » À L'ÉPREUVEDES DÉBATS SOCIOLOGIQUES », voir : http://documents.irevues.inist.fr/bitstream/handle/2042/8983/HERMES_2005_42_60.pdf?sequence=1
Consulté le 10-4-2010.
[8] إن الاختلافات في محتوى الروايات ليست بنفس الكيفية ولا الكمية بين الأشكال الفنية للخطاب الشفوي الشعبي فالتحويرات الإرادية واللاإرادية التي ترصد مثلا في الحكاية الشعبية تختلف عن تلك التي ترصد في الشعر الشعبي أو الأمثال الشعبية.
[9] KLEIBER Georges, « Les proverbes : Des dénominations d’un type « très très spécial » », in : La mémoire des mots : Actes du colloques de Tunis, 25,26 et 27 septembre 1997, sous la direction de André Clas, Salah Méjri, Taieb Baccouche, Tunis, Serviced, 1998, pp. 23-39.
[10] Anscombre, J.C. (1994). « Proverbes et formes proverbiales: valeur évidantielle et argumentation », Langue française, pp. 95-107. Voir p.100.
وقد كون "أنسكومر" صحبة " داكروت" نظرية مميزة حول اللغة الطبيعية حيث ححدا لها وظيفة المحاججة والبرهنة وهو ما يشير إليه القول التالي:
« L'idée maîtresse est que la langue n'a pas comme but principal la représentation du monde, mais l'argumentation. En d'autres termes, le langage naturel n'entretient pas uniquement (parfois il semble dire pas du tout) un lien de référence au monde, mais constitue le lieu d'échange d'arguments, dont la structure est logée à même le langage. »
http://fr.wikipedia.org/wiki/Oswald_Ducrot, consulté le 2-4-2010.
[11] يمكن تطبيق بعض الأمثال المرصودة بالبلاد التونسية على هذه التركيبات اللغوية لكي نستنتج صعوبة ملاءمتها لذلك ومنها: " الماء الي ماشي للسدرة الزيتونة أولى بيه"، " أملا البطينة تستحي العوينة "، " المال والسلطان ما فيهمش آمان"....
[12] دياب حافظ، المرجع نفسه،، ص 273.
[13] المرجع الأخير، ص 262.
[14] دياب حافظ ، المرجع نفسه، ص 290
[15] كارج فابر ، » ماهو التاريخ « في: مجلة الفكر العربي عدد 27 ، ص 14.
[16] حسين أحمد أمين، المرجع ذاته، ص 45.
[17] يقول ميرسيا إلياد مبينا أحد أبرز الخاصيات للخطاب الأسطوري بأنه:
"Tendance obscure à transcender son moment historique , local , provincial et à recouvrir un a Grand temps quelconque fait il le temps mythique de la première manifestation surréaliste ou existentialiste ".
مرسيا إلياد، المرجع الأخير، ص 33.
[18] عبد الرحمان أيوب ، استمرارية الآداب الشعبية ومواكبتها للتحولات الاجتماعية التاريخية الأساسية في الوطن العربي ، في: مجلة مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 365 .
[19] فريدريش فون ديرلابن ، المرجع ذاته ص 23.
[20]يصف المؤلف هذا العالم بالتناسق والانسجام بقوله:
« Ce monde enchanté est harmonieux sans contradiction pourtant fertile en péripéties, car il connaît lui aussi la lutte du bien et du mal, il existe de mauvais génies et de mauvaise fées, Mais une fois acceptées les propriétés singulière de cette surnature tout y demeure remarquablement homogène »
Rogers Caillois, Images, images ...,p 16.
[21] عبد الرحمان أيوب ، المرجع ذاته ، ص 86 .
[22] " Couches Sémantiques "
[23] Champs Sémantiques
[24] ورد هذا المصطلح Bassin Sémantique في محاضرة ألقاها ميشال مافيزولي Michel Maffesoli أستاذ علم الاجتماع بجامعة باريس V بعنوان " موقع الفن في المجتمعات المعاصرة " بتاريخ 8 أفريل 1999 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس
[25] يقول الهادي التيمومي في إطار ذلك : " إن موظفي الأبنية الفوقية ...الذين كانوا يدافعون عن الشرائح الاجتماعية الماسكة بالسلطة والثروة ويزودونها بتجانسها الإيديولوجي وبوعيها بوظيفتها السياسية والاقتصادية والدينية..قد فعلوا ذلك عن طريق الوسائل الدعائية المتمثلة في الأمثال الشعبية والأحجية والحكايات وقد أصبحت هذه الفكرة بمثابة المسلمة الأبدية". ثم يقدم الباحث مثالا شعبيا على ذلك وهو: " كول خبزتك مسارقة واسكت على روحك".
راجع في هذا الصدد: التيمومي الهادي، الإستعمار الرأسمالي والتشكيلات الاجتماعية ...، مصدر سابق، ص352 وما بعدها.
[26] Doise Willem, Logiques sociales dans le raisonnement, Paris, Deulachaux et Niestlé, 1993,( col. Actualités en sciences sociales), p. 128.
[27] هنية عبد الحميد، التمثلات..،المرجع ذاته، ص 64.
[28] Nicolat Michel, Dynamiques relationnelles et processus cognitif :étude du marquage social, Paris, Delachaux et Niestlé, 1995.p.10.
[29] « Ni l’identité de Cour, caractéristiques des Etats bureaucratiques « modernes », ni l’identité d’entrepreneur « rationnel » imposant, sur un marché, une logique économique capitaliste, désenchantée et inégalitaire, ni le militant « révolutionnaire » fusionnant avec sa Cause « communiste » et l’appareil qui prétend l’incarner ne peuvent tenir lieu de pole d’identification commune, universellement légitime et désirable. », Ibid., P. 53..
[30] Ibid., P. 49.
[31] Sonneck C, Chants arabes du Maghreb :étude sur le dialecte et la poésie populaire de l’Afrique du Nord, Tome 1, textes arabes, Paris, Librairie orientale et Américaine, 1902.
[32] وردت العديد من الإشارات في هذا المعنى ويمكن أن نذكر مثلا أن " جون لامارت Jean Lamart " في تقديمه لكتاب "sémiotique narrative de l’œuvre de F. Rabelais…" أن عمل المؤلف جميل شاكر ،بين أن كتاب " فرانسوا رابلاي" هو كنز لم تتمكن البحوث من جرده وتقدير كل ثروته.
Jamil shaker , Sémiotique narrative de l’œuvre de François Rabelais , ,p.13.
[33] يذكر عبد الرحمان أيوب "أن التراث الشعبي يتحرك في إطار هدف معين يعلل استمرار يته في الزمان والمكان ويبوئه مرتبة الظاهرة الاجتماعية الإيجابية وهذا الهدف هو التعبير المستمد من الذات والإخبار عن الذات كشخصية وهوية بملامح متعددة ومتباينة .
عبد الرحمان أيوب، التراث الشعبي المروي"حول منهجية جمعه وتصنيفه.في المجلة العربية للثقافة،العدد 15،سبتمبر1988 .
[34] Le sociologue légitimiste croit que les classes populaires sont muettes parce qu'il ne sait pas qu'il est sourd; c'est sur leur silence supposé qu'il entame son lamento misérabiliste. Claude Grignon, «Un savant et le populaire»,
Politix, n° 13, 1991